كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها. {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم...}.
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب. حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار، بانقطاع الدار. ويصبحن غير محصنات. فلا أزواج لهن في دار الإسلام. ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل. ويصبح بعدها نكاحهن حلالا- إن دخلن في الإسلام- أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه، باعتبارهن ملك يمين، سواء أسلمن أم لم يسلمن.
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها.. كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}. في سورة محمد في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما.
ونكتفي هنا بالقول: بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلًا كبيرًا. ولم يكن له بد من ذلك. حيث كان استرقاق الأسرى نظامًا عالميًا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد. وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقًا؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارًا، فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم، بل وهي رابحة غانمة!
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم. فكيف يصنع بهن؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن. فهناك حاجة فطرية أخرى لابد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات. لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن؛ وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب.
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل. المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل؛ أو يشرع للناس شيئًا في أمور حياتهم جميعًا: {كتاب الله عليكم}..
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه.. فليست المسألة هوى يتبع، أو عرفًا يطاع، أو موروثات بيئة تتحكم.. إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه.
فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك.
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء، والجمع بين الأختين- على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء. وقد كان يسمى عندهم مقيتًا نسبة إلى المقت! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا، إنما قال الله سبحانه: {كتاب الله عليكم}.
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام، وحقيقة الأصل الفقهي. فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية:
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه. بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير. فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانًا أصليًا، غير قابل للتصحيح المستأنف. فالجاهلية بكل ما فيها- والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح- باطلة بطلانًا أصليًا. باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها. والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها، يأخذ الحياة جملة، ويأخذ الأمر جملة؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها، وكل عرفها، وكل شرائعها؛ لأنها باطلة بطلانًا أصليًا غير قابل للتصحيح المستأنف.. فإذا أقر عرفًا كان سائدًا في الجاهلية، فهو لا يقره بأصله الجاهلي؛ مستندًا إلى هذا الأصل. إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه. أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية.
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على العرف في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانًا من عنده هو- بأمر الله- فتصبح للعرف- في هذه المسائل- قوة الشريعة، استمدادًا من سلطان الشارع- وهو الله- لا استمدادًا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل. فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان.. كلا.. إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرًا في بعض المسائل. وإلا بقي على بطلانه الأصلي، لأنه لم يستمد من أمر الله. وهو وحده مصدر السلطان. وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع. فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله؟
هذا الأصل الكبير، الذي تشير إليه هذه اللمسة: {كتاب الله عليكم} تقرره وتؤكده النصوص القرآنية في كل مناسبات التشريع، فما من مرة ذكر القرآن تشريعًا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانًا.
أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبًا بقوله: {ما أنزل الله بها من سلطان} لتحريرها من السلطان ابتداء، وبيان علة بطلانها، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح.
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي. من أن الأصل في الأشياء الحل، ما لم يرد بتحريمها نص، فكون الأصل في الاشياء الحل، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه، فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته، إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله. وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان.
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات، وربطها بأمر الله وعهده، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج؛ والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت؛ وإقامة مؤسسات الأسرة، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم.. محصنين غير مسافحين.. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليمًا حكيمًا}..
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء، بأموالهم- أي لأداء صداقهن- لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح! ومن ثم قال: {محصنين غير مسافحين}..
وجعلها قيدًا وشرطًا للابتغاء بالأموال، قبل أن يتم الجملة، وقبل أن يمضي في الحديث. ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته: {محصنين} بل أردفها بنفي الصورة الأخرى: {غير مسافحين} زيادة في التوكيد والإيضاح، في معرض التشريع والتقنين.. ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها.. علاقة النكاح.. وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها.. علاقة المخادنة أو البغاء.. وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية، ومعترفًا بها كذلك من المجتمع!
جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها-: «ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم. يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته. فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر. يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك».
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه- سواء منه المخادنة والبغاء- والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه.. أما الثاني فما ندري كيف نسميه!!!
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله.. فهو إحصان.. هو حفظ وصيانة.. هو حماية ووقاية.. هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة. ففي هذه القراءة {محصِنين} بصيغة اسم الفاعل، وفي قراءة أخرى: {محصَنين} بصيغة اسم المفعول. وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة. وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال. إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة.
والآخر: سفاح.. مفاعلة من السفح، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطىء! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة، فيريقان ماء الحياة، الذي جعله الله لامتداد النوع، ورقيه، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها. فإذا هما يريقانه للذة العابرة، والنزوة العارضة، يريقانه في السفح الواطىء! فلا يحصنهما من الدنس، ولا يحصن الذرية من التلف، ولا يحصن البيت من البوار!
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة؛ في كلمتين اثنتين. ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة. وذلك من بدائع التعبير في القرآن.
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال. عاد ليقرر كيف يُبتغى بالأموال: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةْ}.
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها. فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل- وهن ما وراء ذلكم من المحرمات- فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان- أي عن طريق النكاح (الزواج) لا عن أي طريق آخر- وعليه أن يؤدي لها صداقها حتمًا مفروضًا، لا نافلة، ولا تطوعًا منه، ولا إحسانًا، فهو حق لها عليه مفروض. وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل- كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية- وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية.
وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده! كأنهما بهيمتان! أو شيئان!
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته، يدع الباب مفتوحًا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}.
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها- كله أو بعضه- بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقًا لها خالصًا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية- ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر، أو يزيدها فيه. فهذا شأنه الخاص. وهذا شأنهما معًا يتراضيان عليه في حرية وسماحة.